إنّ التحوّلات التي شهدها وسيشهدها سطح الأرض تستلزم معالجات علمية وفلسفية لمحسانها ومساوئها، وقد مزجت المدرسة النقدية بين الفلسفة والسوسيولوجيا في تناولها النقدي للعالم الاستهلاكي الغربي، وأسست لفلسفة، أكثر أو أقل، تشاؤمية، فإلى أيّ بُعدٍ ذهبت النظرية؟
بدأت قصة المدرسة الصراعية بنقد سياسات الحزبين الألمانيين الشيوعي والديمقراطي، فكانت بعيدة عن حقل الثقافة (الذي ارتبط فيما بعد اسمها به) إلى غاية ما هاجر رائداها "ماكس هوركهايمر" و"ثيودور أدورنو" إلى الو.م.أ، وهناك ابتدأت دراساتهما النقدية لما آلت إليه الرأسمالية والعقلانية التقنية والأداتية، فقد انبهرا، سلبا، بضخامة الثقافة الاستهلاكية السلبية لدى المجتمع الأمريكي، وأتت نزعتهما التشاؤمية وهما يؤلفان كتابهما الشهير "جدلية التنوير"، الذي خصّصا فيه نقدا كبيرا للثقافة الجماهيرية وللموسيقى الجماهيرية، خاصة موسيقى الجاز التي في نظرهما تدهورت بعدما وضعوها في قالب التحليل الجمالي دون التحليل البسيكوسوسيولوجي.
وتناولا بالنقد كذلك الاغتراب الهويّاتي والإعلام الذي سقط في الفجوة الاستهلاكية الدعائية والذي أصبح سَجين مصطلح "صناعة الثقافة" الذي استحدثاه في ذات الكتاب. ففي تصوّرهما كلّ هذه الخيبات ترجع كتعريف لمصطلح "سلعنة" أو "تشييء" الثقافة من طرف رجالات رأس المال. ف"تسليع" الثقافة يشير إلى التحويل الصناعي والتجاري للعناصر الثقافية الأصيلة إلى منحدرِ الابتذال والتفاهة، وهذا يوضحه بتعمق الفيلسوف الكندي alain deneault في كتابه "نظام التفاهة" la médiocratie الصادر سنة 2015 والذي قد يعتبر توسعةً للنظرية النقدية وتحديثًا لها.
وبعد عشرين سنة من كتاب جدلية التنوير، بَرَزَ الفرانكفورتي herbert marcuse بكتابه الناقد "الإنسان ذو البعد الواحد" الذي يجادل فيه أنّ الفرد صار توجهه الفكري والثقافي والاقتصادي واحدا أوحدا، يسير وفقه إلى هاوية الاستهلاك دون الالتفات يمنة ولا شمالا، بجانب كلّ الأفراد القابعين تحت الأنظمة الجِدُ رأسمالية والتي تغزو الأفكار وتغسل الأدمغة وتجتاز القارات لنشر ثقافتها الاستهلاكية تحت مظلة العولمة، وتخلق عند الإنسان حاجيات غير محتاج لها ورغبات وهمية ليست مرغوبة، ف"تشييء" الثقافة يبني إنسانا "مشيّئا" وهو بهذا له وظيفة ذات بعد واحد ونمط حياة ذو بعد واحد.
ومن أبرز النقّاد الحديثين لمآلات الثقافة هو الفيلسوف وعالم الاجتماع البولندي "زيجمونت باومان" Bauman الذي ألّف مجموعة كتب أهمها: "الثقافة السائلة" الصادر سنة 2011، "المراقبة السائلة"، "الحداثة السائلة"، وغيرها. فقد رأى "باومان" أن الاستهلاك قد تجاوز فكرة السلعة المادية إلى استهلاك العواطف والعلاقات الإنسانية وتكنولوجيا التواصل، بالصورة التي أثرت كثيرا على معاني الحياة والحب والأخلاق، وبالطريقة التي جعلتنا مراقبين باستمرار بسبب استهلاكنا النهِم للتكنولوجيا الحديثة.
Comments